متفرقات
النظام الجديد المدمّر
نعيش الآن وسط ازدحام كبير من الابتكارات بفضل التقدم السريع للتكنولوجيا الذي يجتاح العالم بأكمله بتطوراته الهائلة والغريبة. أصبح العالم يتأقلم شيئًا فشيئًا، ويواكب هذا التقدم من خلال تبنيه لهذه الابتكارات حتى لو لم يكن مقتنعًا بها بالكامل. ومما زاد الطين بلة، الظهور المفاجئ لجائحة كورونا الذي أضفى تغييرًا جذريًّا على العالم وأثّر سلبًا على مختلف القطاعات وأهمها القطاع التعليمي، وبالأخص المدارس والجامعات؛ فشهدت هذه الفترة ولادة ظاهرة التعليم عن بُعد. بالرغم من فوائدها الكثيرة، إلا أن اعتمادها كمصدر أساسي للتعليم فكرة غير مرحّب بها ما إذا أردنا إنشاء مواطنين مسؤولين ومبدعين في المجتمع.
ليس هناك أدنى شك أن التكنولوجيا قد تسللت ببطء إلى حياتنا اليومية، وأصبح من الصعب الاستغناء عنها، فقد أثبتت أنها نعمة في بعض الأحيان.
فعلى المستوى الطبي مثلًا، ساعدتنا التكنولوجيا في مكافحة العديد من الأمراض الفتاكة من خلال تطور سرعة وتيرة الأبحاث. وبالتالي، إنقاذ البشرية.
أما على الصعيد المهني، فأصبح من السهل على الشركات إتمام الصفقات مع دول في الخارج؛ لأن عملية التواصل تيسّرت وأصبحت أسهل من قبل.
وأما على الصعيد التعليمي…
تمهّل قليلًا!
للأسف، شوّهت التكنولوجيا الصورة التقليدية للمدرسة؛ حيث كان تفاعل الطلاب جزءًا مهمًّا من تطورهم المعرفي والشخصي. هذا التغيير الجذري في القطاع التعليمي سندفع ثمنه غاليًا، وأكبر دليل على ذلك هو الجيل الصاعد الذي أصبح يفضّل ويشجّع ظاهرة التعلم عن بعد "طوال الوقت".
صحيح أن التكنولوجيا سهّلت عملية التواصل وتخطت الزمان والمكان؛ إلّا أنها حطمتها في اللحظة نفسها في المدرسة. يا للسخرية!
نسي الطلاب معنى "المناقشة" و"الشرح"، فالتفاعل الطلابي أصبح يتلاشى شيئًا فشيئًا. إحدى هذه الأسباب تعود إلى ضيق الوقت حيث يمكن أن ينقطع التواصل مع أحد التلاميذ بأي لحظة بسبب الإنترنت المتقطع، فيُجبر المعلم انتظار الطالب ليعاود اتصاله بشبكة الإنترنت ممّا يؤدي إلى هدر الوقت. كل هذا يشكل ضغط على المعلم لإنهاء الحصة بسرعة من دون ترك مجال للمناقشة مع التلاميذ. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون التلميذ مشتتًا وغير منضبط مع المعلم إلا أنه يصعب اكتشاف ذلك.
بينما في الصف الأمر مختلف، حيث يكون من السهل على المُعلِّم معرفة التلميذ الشارد أو الذي يتلهى وإعادته إلى جو الدرس.
هذا الأمر يبدو في غاية الصعوبة عندما يكون هناك بحدود خمسة عشرة كاميرا يجب أن تنظر إليها لتراقب تلامذتك وتنظر إلى الكتاب في آن معًا. في الواقع، هناك تلامذة تشارك فقط لتسجّل حضورها.
بناء على تجربتي الشخصية، عندما فتحت المدرسة أبوابها وعدنا إلى الصف، كان الأمر كارثيًّا.
أولًا: تبدل سلوك الطلاب بشكل كبير، حيث أصبحوا يلتزمون الصمت طوال الحصة، وأبدوا خجلهم للغاية، لدرجة أنهم لم يشاركوا بتاتًا بأي موضوع طرح. حتى أنا شعرت بالغربة، لأنني نسيت اللوح وجو الصف. ماذا أقول إذًا عن الطلاب المتوترين والذين أصبحوا يتأرجحون ما بين التعلم مرة في البيت ومرة في الصف؟
ثانيًا: أصبحت قدرة تركيزهم محدودة جدًّا؛ لأنهم اعتادوا على الدروس المسجلة، فسرعان ما يشعرون بالملل أثناء الشرح في الصف. توقفوا أيضًا عن تدوين الملاحظات وتدريب ذاكرتهم على حفظ المعلومات المهمة؛ لأنهم كانوا يضمنون خلال فترة التعليم عن بعد بمشاهدة إعادة الشرح للدرس وقت ما يريدون، فلا يعيرون الآن الانتباه الكافي في الصف. أصبح التلامذة كسالى.
لا تسيئوا فهمي! أنا مع فكرة دمج التكنولوجيا بالقطاع التعليمي لكن عدم المس بالأساسيات وإحداث تغيير جذري. على سبيل المثال، التكنولوجيا نعمة وضرورة عندما تساعد معلم التاريخ بأخذ التلامذة في رحلة افتراضية إلى البيت الأبيض وشرح تاريخه باستخدام هذه المنهجية الحديثة. بهذه الطريقة، يستطيع التلميذ ربط المنهج بالعالم الخارجي.
دمج التكنولوجيا في التعليم يشكّل مصدر قلق الآن لأنها تجاوزت حدودها. فالتعليم عن بُعد لم يكتفِ فقط بفترة الوباء. في تلك الفترة، كان الغرض من التعليم عن بعد هو سد فجوة الفراغ التعليمي؛ لكي يعوّض التلامذة ما فاتهم ولا يخسرون سنين بدون دراسة.
لكن مع الأسف، التعليم عن بُعد دخل خِلسة أثناء فترة الوباء وأوهمنا أنه مؤقت؛ لكن من الواضح أنه على وشك أن يصبح النظام التعليمي الجديد. إن أرقام التلاميذ التي تسجل وتفضِّل التعليم عن بُعد إلى تزايد، وهذا أمر مخيف.
أخيرًا وليس آخرًا، اعتاد التلامذة على الصفوف الافتراضية والتعلم عن بعد. وهذا يعتبر أمرًا مثيرًا للقلق؛ لأن العديد من المهارات المهم اكتسابها في ذلك العمر تتلاشى شيئًا فشيئًا، وأهمها التواصل الاجتماعي الحقيقي وليس الافتراضي. أتمنى أن يعاود وزراء التعليم وأصحاب المدارس التفكير في عدم اعتماد دمج التعلم عن بُعد كمصدر أساسي وأوّلي للتعليم، بل اللجوء إليه عند الضرورة القصوى فقط، أو كعامل استئناس.